سورة المجادلة - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المجادلة)


        


قوله: {قَدْ سَمِعَ الله} قرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي بإدغام الدال في السين، وقرأ الباقون بالإظهار. قال الكسائي: من بيَّن الدال عند السين، فلسانه أعجميّ وليس بعربيّ {قَوْلَ التى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا} أي: تراجعك الكلام في شأنه {وَتَشْتَكِى إِلَى الله} معطوف على تجادلك. والمجادلة هذه الكائنة منها مع رسول الله أنه كان كلما قال لها: «قد حرمت عليه»، قالت: والله ما ذكر طلاقاً، ثم تقول: أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي، وإن لي صبية صغاراً إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إليّ جاعوا، وجعلت ترفع رأسها إلى السماء، وتقول: اللَّهم إني أشكو إليك، فهذا معنى قوله: {وَتَشْتَكِى إِلَى الله} قال الواحدي: قال المفسرون: نزلت هذه الآية في خولة بنت ثعلبة، وزوجها أوس بن الصامت، وكان به لمم، فاشتد به لممه ذات يوم، فظاهر منها، ثم ندم على ذلك، وكان الظهار طلاقاً في الجاهلية، وقيل: هي خولة بنت حكيم، وقيل: اسمها جميلة، والأوّل أصح، وقيل: هي بنت خويلد، وقال الماوردي: إنها نسبت تارة إلى أبيها، وتارة إلى جدّها، وأحدهما أبوها، والآخر جدّها، فهي: خولة بنت ثعلبة بن خويلد، وجملة {والله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُما} في محل نصب على الحال، أو مستأنفة جارية مجرى التعليل لما قبلها أي: والله يعلم تراجعكما في الكلام {إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ} يسمع كل مسموع، ويبصر كل مبصر، ومن جملة ذلك ما جادلتك به هذه المرأة. ثم بيّن سبحانه شأن الظهار في نفسه، وذكر حكمه، فقال: {الذين يظاهرون مِنكُمْ مّن نّسَائِهِمْ} قرأ الجمهور: {يظهرون} بالتشديد مع فتح حرف المضارعة. وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي: {يظاهرون} بفتح الياء، وتشديد الظاء، وزيادة ألف، وقرأ أبو العالية، وعاصم، وزرّ بن حبيش: {يظاهرون} بفك الإدغام، ومعنى الظهار: أن يقول لامرأته: أنت عليّ كظهر أمي، ولا خلاف في كون هذا ظهاراً.
واختلفوا إذا قال: أنت عليّ كظهر ابنتي، أو أختي، أو غير ذلك من ذوات المحارم، فذهب جماعة منهم أبو حنيفة ومالك إلى أنه ظهار، وبه قال الحسن، والنخعي، والزهري، والأوزاعي، والثوري.
وقال جماعة منهم قتادة والشعبي: إنه لا يكون ظهاراً بل يختصّ الظهار بالأمّ وحدها. واختلفت الرواية عن الشافعي، فروي عنه كالقول الأوّل، وروي عنه كالقول الثاني، وأصل الظهار مشتق من الظهر.
واختلفوا إذا قال لامرأته: أنت عليّ كرأس أمي، أو يدها، أو رجلها، أو نحو ذلك؟ هل يكون ظهاراً أم لا وهكذا إذا قال: أنت عليّ كأمي ولم يذكر الظهر، والظاهر أنه إذا قصد بذلك الظهار كان ظهاراً.
وروي عن أبي حنيفة أنه إذا شبهها بعضو من أمه يحلّ له النظر إليه لم يكن ظهاراً، وروي عن الشافعي أنه لا يكون الظهار إلاّ في الظهر وحده.
واختلفوا إذا شبّه امرأته بأجنبية فقيل: يكون ظهاراً وقيل: لا، والكلام في هذا مبسوط في كتب الفروع. وجملة: {مَّا هُنَّ أمهاتهم} في محل رفع على أنها خبر الموصول، أي: ما نساؤهم بأمهاتهم، فذلك كذب منهم، وفي هذا توبيخ للمظاهرين وتبكيت لهم. قرأ الجمهور {أمهاتهم} بالنصب على اللغة الحجازية في إعمال {ما} عمل ليس. وقرأ أبو عمرو، والسلمي بالرّفع على عدم الإعمال، وهي لغة نجد، وبني أسد. ثم بيّن سبحانه لهم أمهاتهم على الحقيقة فقال: {إِنْ أمهاتهم إِلاَّ اللائى وَلَدْنَهُمْ} أي: ما أمهاتهم إلاّ النساء اللائي ولدنهم، ثم زاد سبحانه في توبيخهم وتقريعهم، فقال: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مّنَ القول وَزُوراً} أي: وإن المظاهرين ليقولون بقولهم هذا منكراً من القول، أي: فظيعاً من القول ينكره الشرع، والزور: الكذب، وانتصاب {منكراً}، و{زوراً} على أنهما صفة لمصدر محذوف، أي: قولاً منكراً وزوراً {وَإِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} أي: بليغ العفو والمغفرة إذ جعل الكفارة عليهم مخلصة لهم عن هذا القول المنكر. {والذين يظاهرون مِن نّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ} لما ذكر سبحانه الظهار إجمالاً ووبخ فاعليه شرع في تفصيل أحكامه، والمعنى: والذين يقولون ذلك القول المنكر الزور، ثم يعودون لما قالوا، أي: إلى ما قالوا بالتدارك والتلافي، كما في قوله: {أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ} [النور: 17] أي: إلى مثله، قال الأخفش: {لِمَا قَالُواْ} وإلى ما قالوا يتعاقبان. قال: {وَقَالُواْ الحمد لِلَّهِ الذى هَدَانَا لهذا} [الأعراف: 43] وقال: {فاهدوهم إلى صراط الجحيم} [الصافات: 23] وقال: {بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا} [الزلزلة: 5] وقال: {وَأُوحِىَ إلى نُوحٍ} [هود: 36] وقال الفرّاء: اللام بمعنى عن، والمعنى: ثم يرجعون عما قالوا، ويريدون الوطء.
وقال الزجاج: المعنى: ثم يعودون إلى إرادة الجماع من أجل ما قالوا. قال الأخفش أيضاً: الآية فيها تقديم وتأخير، والمعنى: والذين يظهرون من نسائهم، ثم يعودون لما كانوا عليه من الجماع {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} لما قالوا، أي: فعليهم تحرير رقبة من أجل ما قالوا. فالجار في قوله: {لِمَا قَالُواْ} متعلق بالمحذوف الذي هو خبر المبتدأ، وهو فعليهم.
واختلف أهل العلم في تفسير العود المذكور على أقوال: الأوّل: أنه العزم على الوطء، وبه قال العراقيون أبو حنيفة وأصحابه، وروي عن مالك. وقيل: هو الوطء نفسه، وبه قال الحسن، وروي أيضاً عن مالك. وقيل: هو أن يمسكها زوجة بعد الظهار مع القدرة على الطلاق، وبه قال الشافعي. وقيل: هو الكفارة، والمعنى: أنه لا يستبيح وطأها إلاّ بكفارة، وبه قال الليث بن سعد، وروي عن أبي حنيفة. وقيل: هو تكرير الظهار بلفظه، وبه قال أهل الظاهر.
وروي عن بكير بن الأشبح، وأبي العالية، والفراء.
والمعنى: ثم يعودون إلى قول ما قالوا. والموصول مبتدأ، وخبره: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} على تقدير، فعليهم تحرير رقبة، كما تقدّم، أو قالوا وجب عليهم إعتاق رقبة، يقال: حررته، أي: جعلته حرّاً، والظاهر أنها تجزئ أيّ رقبة كانت، وقيل: يشترط أن تكون مؤمنة كالرقبة في كفارة القتل؛ وبالأول: قال أبو حنيفة وأصحابه، وبالثاني: قال مالك، والشافعي، واشترطا أيضاً سلامتها من كل عيب {مّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا} المراد بالتماس هنا: الجماع، وبه قال الجمهور، فلا يجوز للمظاهر الوطء حتى يُكَفّر، وقيل: إن المراد به الاستمتاع بالجماع، أو اللمس، أو النظر إلى الفرج بشهوة، وبه قال مالك، وهو أحد قولي الشافعي، والإشارة بقوله: {ذلكم} إلى الحكم المذكور وهو مبتدأ، وخبره: {تُوعَظُونَ بِهِ} أي: تؤمرون به، أو تزجرون به عن ارتكاب الظهار، وفيه بيان لما هو المقصود من شرع الكفارة. قال الزجاج: معنى الآية ذلكم التغليظ في الكفارة توعظون به أي: إن غلظ الكفارة وعظ لكم حتى تتركوا الظهار {والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} لا يخفى عليه شيء من أعمالكم، فهو مجازيكم عليها. ثم ذكر سبحانه حكم العاجز عن الكفارة، فقال: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا} أي: فمن لم يجد الرّقبة في ملكه، ولا تمكن من قيمتها، فعليه صيام شهرين متتابعين متواليين لا يفطر فيهما، فإن أفطر استأنف إن كان الإفطار لغير عذر، وإن كان لعذر من سفر أو مرض، فقال سعيد بن المسيب، والحسن، وعطاء بن أبي رباح، وعمرو بن دينار، والشعبي، والشافعي، ومالك: إنه يبني، ولا يستأنف.
وقال أبو حنيفة: إنه يستأنف، وهو مرويّ عن الشافعي؛ ومعنى {مّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا}: هو ما تقدّم قريباً، فلو وطئ ليلاً أو نهاراً عمداً أو خطأ استأنف، وبه قال أبو حنيفة، ومالك.
وقال الشافعي: لا يستأنف إذا وطئ ليلاً؛ لأنه ليس محلاً للصوم، والأول أولى {فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ} يعني: صيام شهرين متتابعين {فَإِطْعَامُ سِتّينَ مِسْكِيناً} أي: فعليه أن يطعم ستين مسكيناً، لكل مسكين مدّان، وهما نصف صاع، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه.
وقال الشافعي وغيره: لكل مسكين مدّ واحد، والظاهر من الآية أن يطعمهم حتى يشبعوا مرّة واحدة، أو يدفع إليهم ما يشبعهم، ولا يلزمه أن يجمعهم مرّة واحدة، بل يجوز له أن يطعم بعض الستين في يوم، وبعضهم في يوم آخر، والإشارة بقوله: {ذلك} إلى ما تقدّم ذكره من الأحكام، وهو مبتدأ، وخبره مقدّر، أي: ذلك واقع {لّتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ} ويجوز أن يكون اسم الإشارة في محل نصب، والتقدير: فعلنا ذلك لتؤمنوا، أي: لتصدّقوا أن الله أمر به وشرعه، أو لتطيعوا الله ورسوله في الأوامر والنواهي، وتقفوا عند حدود الشرع ولا تتعدّوها، ولا تعودوا إلى الظهار الذي هو منكر من القول وزور، والإشارة بقوله: {وَتِلْكَ} إلى الأحكام المذكورة، وهو مبتدأ، وخبره: {حُدُود الله} فلا تجاوزوا حدوده التي حدّها لكم، فإنه قد بيّن لكم أن الظهار معصية، وأن كفارته المذكورة توجب العفو والمغفرة {وللكافرين} الذين لا يقفون عند حدود الله، ولا يعملون بما حدّه الله لعباده {عَذَابٌ أَلِيمٌ} وهو عذاب جهنم، وسماه كفراً تغليظاً وتشديداً.
وقد أخرج ابن ماجه، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي عن عائشة قالت: تبارك الذي وسع سمعه كل شيء إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة، ويخفى عليّ بعضه، وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي تقول: يا رسول الله أكل شبابي، ونثرت له بطني حتى إذا كبر سني وانقطع ولدي ظاهر مني، اللَّهمّ إني أشكو إليك، قالت: فما برحت حتى نزل جبريل بهؤلاء الآيات: {قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا} وهو أوس بن الصامت.
وأخرج النحاس، وابن مردويه، والبيهقي عن ابن عباس قال: كان أوّل من ظاهر في الإسلام أوس، وكانت تحته ابنة عمّ له يقال لها: خولة بنت خويلد، فظاهر منها، فأسقط في يده وقال: ما أراك إلاّ قد حرمت عليّ، فانطلقي إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فاسأليه، فأتت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فوجدت عنده ماشطة تمشط رأسه، فأخبرته، فقال: «يا خولة ما أمرنا في أمرك بشيء»، فأنزل الله على النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: «يا خولة أبشري» قالت: خيراً. قال: «خيراً»، فقرأ عليها {قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا} الآيات.
وأخرج أحمد، وأبو داود، وابن المنذر، والطبراني، وابن مردويه، والبيهقيّ من طريق يوسف بن عبد الله بن سلام قال: حدّثتني خولة بنت ثعلبة قالت: فيّ، والله، وفي أوس بن الصامت أنزل الله صدر سورة المجادلة، قالت: كنت عنده، وكان شيخاً كبيراً قد ساء خلقه، فدخل عليّ يوماً فراجعته بشيء، فغضب فقال: أنت عليّ كظهر أمي، ثم رجع، فجلس في نادي قومه ساعة، ثم دخل عليّ، فإذا هو يريدني عن نفسي، قلت: كلا والذي نفس خولة بيده لا تصل إليّ، وقد قلت ما قلت حتى يحكم الله ورسوله فينا، ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له، فما برحت حتى نزل القرآن، فتغشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يتغشاه، ثم سري عنه، فقال لي: «يا خولة قد أنزل الله فيك وفي صاحبك»، ثم قرأ عليّ: {قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التى تُجَادِلُكَ} إلى قوله: {عَذَابٌ أَلِيمٌ} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مريه، فليعتق رقبة»، قلت: يا رسول الله ما عنده ما يعتق، قال: «فليصم شهرين متتابعين»، قلت: والله إنه لشيخ كبير ما به من صيام، قال: «فليطعم ستين مسكيناً وسقاً من تمر»، قلت: والله ما ذاك عنده، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فأنا سأعينه بعرق من تمر»، فقلت: وأنا يا رسول الله سأعينه بعرق آخر، فقال: «قد أصبت، وأحسنت، فاذهبي، فتصدّقي به عنه، ثم استوصي بابن عمك خيراً،» قالت، ففعلت وفي الباب أحاديث.
وأخرج ابن المنذر، والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ} قال: هو الرجل يقول لامرأته: أنت عليّ كظهر أمي، فإذا قال ذلك فليس يحلّ له أن يقربها بنكاح، ولا غيره حتى يُكَفر بعتق رقبة {فَمَنْ} فإن {لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا} والمسّ: النكاح {فَمَنْ} فإن {لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتّينَ مِسْكِيناً} وإن هو قال لها: أنت عليّ كظهر أمي إن فعلت كذا، فليس يقع في ذلك ظهار حتى يحنث، فإن حنث، فلا يقربها حتى يُكَفّر، ولا يقع في الظهار طلاق.
وأخرج ابن المنذر عن أبي هريرة قال: ثلاث فيه مدّ: كفارة اليمين، وكفارة الظهار، وكفارة الصيام.
وأخرج البزار، والطبراني، والحاكم، وابن مردويه، والبيهقي عن ابن عباس قال: أتى رجل النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: إني ظاهرت من امرأتي، فرأيت بياض خلخالها في ضوء القمر، فوقعت عليها قبل أن أُكفر، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ألم يقل الله: {مّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا}»، قال: قد فعلت يا رسول الله، قال: «أمسك عنها حتى تُكَفر».
وأخرج عبد الرزاق، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، والحاكم، والبيهقيّ عن ابن عباس أن رجلاً قال: يا رسول الله إني ظاهرت من امرأتي، فوقعت عليها من قبل أن أُكفر، فقال: «وما حملك على ذلك»؟ قال: رأيت خلخالها في ضوء القمر، قال: «فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله».
وأخرج عبد الرّزاق، وأحمد، وعبد بن حميد، وأبو داود، والترمذيّ وحسنه، وابن ماجه، والطبراني، والبغوي في معجمه، والحاكم وصححه عن سلمة بن صخر الأنصاريّ قال: كنت رجلاً قد أوتيت من جماع النساء ما لم يؤت غيري، فلما دخل رمضان ظاهرت من امرأتي حتى ينسلخ رمضان، فرقا من أن أصيب منها في ليلي، فأتتابع في ذلك، ولا أستطيع أن أنزع حتى يدركني الصبح، فبينما هي تخدمني ذات ليلة إذ انكشف لي منها شيء، فوثبت عليها، فلما أصبحت غدوت على قومي، فأخبرتهم خبري، فقلت: انطلقوا معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره بأمري، فقالوا: لا، والله لا نفعل نتخوّف أن ينزل فينا القرآن، أو يقول فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالة يبقى علينا عارها؛ ولكن اذهب أنت، فاصنع ما بدا لك قال: فخرجت، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته خبري، فقال: «أنت بذاك؟» قلت: أنا بذاك، قال: «أنت بذاك؟» قلت: أنا بذاك، قال: «أنت بذاك؟» قلت: أنا بذاك، وها أنا ذا، فأمض فيّ حكم الله، فإني صابر لذلك، قال: «أعتق رقبة»، فضربت عنقي بيدي، فقلت: لا والذي بعثك بالحقّ ما أصبحت أملك غيرها، قال: «فصم شهرين متتابعين»، فقلت: هل أصابني ما أصابني إلاّ في الصيام؟ قال: «فأطعم ستين مسكيناً»، قلت: والذي بعثك بالحقّ لقد بتنا ليلتنا هذه وحشاً ما لنا عشاء، قال: «اذهب إلى صاحب صدقة بني زريق، فقل له، فليدفعها إليك، فأطعم عنك منها وسقاً ستين مسكيناً، ثم استعن بسائرها عليك، وعلى عيالك» فرجعت إلى قومي فقلت: وجدت عندكم الضيق، وسوء الرأي، ووجدت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم السعة والبركة، أمر لي بصدقتكم، فادفعوها إليّ، فدفعوها إليه.


قوله: {إِنَّ الذين يُحَادُّونَ الله وَرَسُولَهُ} لما ذكر سبحانه المؤمنين الواقفين عند حدوده ذكر المحادّين، والمحادّة: المشاقة، والمعاداة، والمخالفة، ومثله قوله: {إِنَّ الذين يُحَادُّونَ الله وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 20] قال الزجاج: المحادّة أن تكون في حدّ يخالف صاحبك، وأصلها الممانعة، ومنه الحديد، ومنه الحدّاد للبوّاب {كُبِتُواْ كَمَا كُبِتَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} أي: أذلوا وأخزوا، يقال: كبت الله فلاناً: إذا أذله، والمردود بالذلّ يقال له: مكبوت. قال المقاتلان: أخزوا، كما أخزي الذين من قبلهم من أهل الشرك، وكذا قال قتادة، وقال أبو عبيدة، والأخفش: أهلكوا.
وقال ابن زيد: عذبوا.
وقال السديّ: لعنوا.
وقال الفرّاء: أغيظوا، والمراد بمن قبلهم: كفار الأمم الماضية المعادين لرسل الله، وعبّر عن المستقبل بلفظ الماضي تنبيهاً على تحقق وقوعه، وقيل المعنى: على المضيّ، وذلك ما وقع للمشركين يوم بدر، فإن الله كبتهم بالقتل والأسر، والقهر، وجملة {وَقَدْ أَنزَلْنَا ءايات بينات} في محل نصب على الحال من الواو في كبتوا، أي: والحال أنا قد أنزلنا آيات واضحات فيمن حادّ الله ورسله من الأمم المتقدّمة، وقيل: المراد الفرائض التي أنزلها الله سبحانه، وقيل: هي المعجزات {وللكافرين عَذَابٌ مُّهِينٌ} أي: للكافرين بكل ما يجب الإيمان به. فتدخل الآيات المذكورة هنا دخولاً أوّلياً، والعذاب المهين: الذي يهين صاحبه، ويذله، ويذهب بعزّه {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً} الظرف منتصب بإضمار اذكر، أو بمهين، أو بما تعلق به اللام من الاستقرار، أو بأحصاه المذكور بعده، وانتصاب {جميعاً} على الحال، أي: مجتمعين في حالة واحدة، أو يبعثهم كلهم لا يبقي منهم أحد غير مبعوث {فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ} أي: يخبرهم بما عملوه في الدنيا من الأعمال القبيحة توبيخاً لهم وتبكيتاً، ولتكميل الحجة عليهم، وجملة {أحصاه الله وَنَسُوهُ} مستأنفة جواب سؤال مقدّر، كأنه قيل كيف ينبئهم بذلك على كثرته واختلاف أنواعه، فقيل: أحصاه الله جميعاً، ولم يفته منه شيء، والحال أنهم قد نسوه ولم يحفظوه، بل وجدوه حاضراً مكتوباً في صحائفهم {والله على كُلّ شَئ شَهِيدٌ} لا يخفى عليه شيء من الأشياء، بل هو مطلع وناظر. ثم أكّد سبحانه بيان كونه عالماً بكل شيء، فقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض} أي: ألم تعلم أن علمه محيط بما فيهما بحيث لا يخفى عليه شيء مما فيهما، وجملة: {مَا يَكُونُ مِن نجوى ثلاثة} إلخ مستأنفة؛ لتقرير شمول علمه وإحاطته بكل المعلومات. قرأ الجمهور: {يكون} بالتحتية. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع، والأعرج، وأبو حيوة بالفوقية، وكان على القراءتين تامة، و{من} مزيدة للتأكيد، ونجوى فاعل كان، والنجوى: السرار، يقال: قوم نجوى، أي: ذو نجوى، وهي مصدر.
والمعنى: ما يوجد من تناجي ثلاثة، أو من ذوي نجوى، ويجوز أن تطلق النجوى على الأشخاص المتناجين، فعلى الوجه الأوّل انخفاض ثلاثة بإضافة نجوى إليه، وعلى الوجهين الآخرين يكون انخفاضها على البدل من نجوى، أو الصفة لها. قال الفرّاء: ثلاثة نعت للنجوى، فانخفضت، وإن شئت أضفت نجوى إليها، ولو نصبت على إضمار فعل جاز، وهي قراءة ابن أبي عبلة، ويجوز رفع ثلاثة على البدل من موضع نجوى {إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} هذه الجملة في موضع نصب على الحال، وكذا قوله: {إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ} {إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ} أي: ما يوجد شيء من هذه الأشياء إلاّ في حال من هذه الأحوال، فالاستثناء مفرّغ من أعمّ الأحوال، ومعنى رابعهم جاعلهم أربعة، وكذا سادسهم: جاعلهم ستة من حيث إنه يشاركهم في الاطلاع على تلك النجوى {وَلاَ خَمْسَةٍ} أي: ولا نجوى خمسة، وتخصيص العددين بالذكر؛ لأن أغلب عادات المتناجين أن يكونوا ثلاثة، أو خمسة؛ أو كانت الواقعة التي هي سبب النزول في متناجين كانوا ثلاثة في موضع، وخمسة في موضع. قال الفراء: العدد غير مقصود؛ لأنه سبحانه مع كل عدد قلّ أو كثر، يعلم السر والجهر، لا تخفى عليه خافية {وَلاَ أدنى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ} أي: ولا أقلّ من العدد المذكور: كالواحد والاثنين، ولا أكثر منه كالستة والسبعة إلاّ هو معهم يعلم ما يتناجون به لا يخفى عليه منه شيء. قرأ الجمهور: {ولا أكثر} بالجرّ بالفتحة عطفاً على لفظ نجوى. وقرأ الحسن، والأعمش، وابن أبي إسحاق، وأبو حيوة، ويعقوب، وأبو العالية، ونصر، وعيسى بن عمر، وسلام بالرفع عطفاً على محل نجوى. وقرأ الجمهور: {ولا أكثر} بالمثلثة. وقرأ الزهري، وعكرمة بالموحدة. قال الواحدي: قال المفسرون: إن المنافقين واليهود كانوا يتناجون فيما بينهم، ويوهمون المؤمنين أنهم يتناجون فيما يسوءهم، فيحزنون لذلك، فلما طال ذلك وكثر شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرهم أن لا يتناجوا دون المسلمين، فلم ينتهوا عن ذلك، وعادوا إلى مناجاتهم، فأنزل الله هذه الآيات، ومعنى {أَيْنَمَا كَانُواْ} إحاطة علمه بكل تناج يكون منهم في أيّ مكان من الأمكنة {ثُمَّ يُنَبّئُهُم} أي: يخبرهم {بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ القيامة} توبيخاً لهم، وتبكيتاً، وإلزاماً للحجة {أَنَّ الله بِكُلّ شَئ عَلِيمٌ} لا يخفى عليه شيء كائناً ما كان. {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نُهُواْ عَنِ النجوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} هؤلاء الذين نهوا، ثم عادوا لما نهوا عنه، هم من تقدّم ذكره من المنافقين واليهود. قال مقاتل: كان بين النبيّ صلى الله عليه وسلم وبين اليهود مواعدة، فإذا مرّ بهم الرجل من المؤمنين تناجوا بينهم حتى يظنّ المؤمن شرّاً، فنهاهم الله، فلم ينتهوا، فنزلت.
وقال ابن زيد: كان الرجل يأتي النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيسأله الحاجة، ويناجيه، والأرض يومئذٍ حرب، فيتوهمون أنه يناجيه في حرب، أو بلية، أو أمر مهمّ، فيفزعون لذلك {ويتناجون بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَتِ الرسول} قرأ الجمهور: {يتناجون} بوزن يتفاعلون، واختار هذه القراءة أبو عبيد، وأبو حاتم، لقوله فيما بعد: {إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تتناجوا}. وقرأ حمزة، وخلف، وورش عن يعقوب: {وينتجون} بوزن يفتعلون، وهي قراءة ابن مسعود وأصحابه، وحكى سيبويه أن تفاعلوا وافتعلوا يأتيان بمعنى واحد نحو تخاصموا واختصموا، وتقاتلوا واقتتلوا، ومعنى الإثم: ما هو إثم في نفسه كالكذب والظلم، والعدوان: ما فيه عدوان على المؤمنين، ومعصية الرسول: مخالفته. قرأ الجمهور: {ومعصية} بالإفراد. وقرأ الضحاك، وحميد، ومجاهد: {ومعصيات} بالجمع {وَإِذَا جَاءوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ الله} قال القرطبي: إن المراد بها اليهود كانوا يأتون النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيقولون: السام عليك يريدون بذلك السلام ظاهراً، وهم يعنون الموت باطناً، فيقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «عليكم» وفي رواية أخرى: «وعليكم» {وَيَقُولُونَ فِى أَنفُسِهِمْ} أي: فيما بينهم {لَوْلاَ يُعَذّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ} أي: هلا يعذبنا بذلك، ولو كان محمد نبياً لعذبنا بما يتضمنه قولنا من الاستخفاف به. وقيل المعنى: لو كان نبياً لاستجيب له فينا حيث يقول: وعليكم، ووقع علينا الموت عند ذلك {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ} عذاباً {يَصْلَوْنَهَا} يدخلونها {فَبِئْسَ المصير} أي: المرجع، وهو جهنم. {ياأيها الذين ءامَنُواْ إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تتناجوا بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَةِ الرسول} لما فرغ سبحانه عن نهي اليهود والمنافقين عن النجوى أرشد المؤمنين إذا تناجوا فيما بينهم أن لا يتناجوا بما فيه إثم وعدوان، ومعصية لرسول الله، كما يفعله اليهود والمنافقون. ثم بيّن لهم ما يتناجون به في أنديتهم وخلواتهم، فقال: {وتناجوا بالبر والتقوى} أي: بالطاعة وترك المعصية، وقيل: الخطاب للمنافقين، والمعنى: يا أيها الذين آمنوا ظاهراً، أو بزعمهم، واختار هذا الزجاج. وقيل: الخطاب لليهود. والمعنى: يا أيها الذين آمنوا بموسى، والأوّل أولى، ثم خوفهم سبحانه، فقال: {واتقوا الله الذى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}، فيجزيكم بأعمالكم. ثم بيّن سبحانه أن ما يفعله اليهود والمنافقون من التناجي هو من جهة الشيطان، فقال: {إِنَّمَا النجوى} يعني: بالإثم والعدوان، ومعصية الرسول {مِنَ الشيطان} لا من غيره، أي: من تزيينه وتسويله {لِيَحْزُنَ الذين ءامَنُواْ} أي: لأجل أن يوقعهم في الحزن بما يحصل لهم من التوهم أنها في مكيدة يكادون بها {وَلَيْسَ بِضَارّهِمْ شَيْئاً} أو، وليس الشيطان، أو التناجي الذي يزينه الشيطان بضارّ المؤمنين شيئًا من الضرر {إِلاَّ بِإِذْنِ الله} أي: بمشيئته، وقيل: بعلمه {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} أي: يكلون أمرهم إليه، ويفوّضونه في جميع شؤونهم، ويستعيذون بالله من الشيطان، ولا يبالون بما يزينه من النجوى.
وقد أخرج أحمد، وعبد بن حميد، والبزار، وابن المنذر، والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب. قال السيوطي بسندٍ جيد عن ابن عمر: إن اليهود كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: السام عليك، يريدون بذلك شتمه، ثم يقولون في أنفسهم: {لولا يعذبنا الله بما نقول}، فنزلت هذه الآية: {وَإِذَا جَاءوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ الله}.
وأخرج أحمد، وعبد بن حميد، والبخاري، والترمذي وصححه عن أنس: أن يهودياً أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقال: السام عليكم، فردّ عليه القوم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «هل تدرون ما قال هذا»؟ قالوا: الله أعلم، سلم يا نبيّ الله، قال: «لا، ولكنه قال كذا، وكذا، ردّوه عليّ» فردّوه، قال: «قلت: السام عليكم؟» قال: نعم، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم عند ذلك: «إذا سلم عليكم أحد من أهل الكتاب، فقولوا: عليك، ما قلت» قال: {وَإِذَا جَاءوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ الله}.
وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن عائشة قالت: دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود، فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم، فقالت عائشة: عليكم السام واللعنة، فقال: «يا عائشة إن الله لا يحب الفحش ولا المتفحش»، قلت: ألا تسمعهم يقولون السام؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أو ما سمعتني أقول: وعليكم» فأنزل الله: {وَإِذَا جَاءوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ الله}.
وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس في هذه الآية قال: كان المنافقون يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حيوه: سام عليك، فنزلت.
وأخرج ابن مردويه عنه قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا بعث سرية وأغزاها، التقى المنافقون، فأنغضوا رءوسهم إلى المسلمين، ويقولون: قتل القوم، وإذا رأوا رسول الله تناجوا وأظهروا الحزن، فبلغ ذلك من النبيّ صلى الله عليه وسلم ومن المسلمين، فأنزل الله: {ياأيها الذين ءامَنُواْ إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تتناجوا بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَةِ الرسول} الآية.
وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كنتم ثلاثة، فلا يتناجى اثنان دون الثالث، فإن ذلك يحزنه».
وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه عن أبي سعيد قال: كنا نتناوب رسول الله صلى الله عليه وسلم يطرقه أمر، أو يأمر بشيء، فكثر أهل النوب والمحتسبون ليلة حتى إذا كنا أنداء نتحدّث، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل فقال: «ما هذه النجوى؟ ألم تنهوا عن النجوى»؟ قلنا: يا رسول الله إنا كنا في ذكر المسيح فرقاً منه، فقال: «ألا أخبركم مما هو أخوف عليكم عندي منه»؟ قلنا: بلى يا رسول الله. قال: «الشرك الخفيّ أن يقوم الرجل يعمل لمكان رجل» قال ابن كثير: هذا إسناد غريب، وفيه بعض الضعفاء.


قوله: {ياأيها الذين ءامَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِى المجالس} يقال: فسح له يفسح فسحاً أي: وسع له، ومنه قولهم بلد فسيح. أمر الله سبحانه بحسن الأدب مع بعضهم بعضاً بالتوسعة في المجلس، وعدم التضايق فيه. قال قتادة، ومجاهد، والضحاك: كانوا يتنافسون في مجلس النبيّ، فأمروا أن يفسح بعضهم لبعض.
وقال الحسن، ويزيد بن أبي حبيب: هو مجلس القتال إذا اصطفوا للحرب كانوا يتشاحون على الصفّ الأوّل، فلا يوسع بعضهم لبعض رغبة في القتال؛ لتحصيل الشهادة {فافسحوا يَفْسَحِ الله لَكُمْ} أي: فوسعوا يوسع الله لكم في الجنة، أو في كلّ ما تريدون التفسح فيه من المكان والرزق وغيرهما. قرأ الجمهور: {تفسحوا في المجلس} وقرأ السلمي، وزرّ بن حبيش، وعاصم: {في المجالس} على الجمع؛ لأن لكلّ واحد منهم مجلساً، وقرأ قتادة، والحسن، وداود بن أبي هند، وعيسى بن عمر: {تفاسحوا} قال الواحدي: والوجه التوحيد في المجلس؛ لأنه يعني به مجلس النبيّ.
وقال القرطبي: الصحيح في الآية أنها عامة في كلّ مجلس اجتمع فيه المسلمون للخير والأجر، سواء كان مجلس حرب، أو ذكر، أو يوم الجمعة، وأن كلّ واحد أحقّ بمكانه الذي سبق إليه، ولكن يوسع لأخيه ما لم يتأذّ بذلك، فيخرجه الضيق عن موضعه، ويؤيد هذا حديث ابن عمر عند البخاري، ومسلم، وغيرهما عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يقم الرجل الرجل من مجلسه، ثم يجلس فيه، ولكن تفسحوا وتوسعوا» {وَإِذَا قِيلَ انشزوا فَانشُزُواْ} قرأ الجمهور بكسر الشين فيها، وقرأ نافع، وابن عامر، وعاصم بضمها فيهما، وهما لغتان بمعنى واحد، يقال: نشز، أي: ارتفع، ينشز وينشز كعكف يعكف ويعكف، والمعنى: إذا قيل لكم: انهضوا، فانهضوا. قال جمهور المفسرين: أي انهضوا إلى الصلاة، والجهاد، وعمل الخير.
وقال مجاهد، والضحاك، وعكرمة: كان رجال يتثاقلون عن الصلاة، فقيل لهم: إذا نودي للصلاة، فانهضوا.
وقال الحسن: انهضوا إلى الحرب.
وقال ابن زيد: هذا في بيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، كان كل رجل منهم يحب أن يكون آخر عهده بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ انشزوا} عن النبيّ {فَانشُزُواْ} فإن له حوائج، فلا تمكثوا.
وقال قتادة: المعنى أجيبوا إذا دعيتم إلى أمر بمعروف، والظاهر حمل الآية على العموم؛ والمعنى: إذا قيل لكم: انهضوا إلى أمر من الأمور الدينية، فانهضوا ولا تتثاقلوا، ولا يمنع من حملها على العموم كون السبب خاصاً، فإن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما هو الحق، ويندرج ما هو سبب النزول فيها اندراجاً أوّلياً، وهكذا يندرج ما فيه السياق، وهو التفسيح في المجلس اندراجاً أوّلياً، وقد قدّمنا أن معنى نشز: ارتفع، وهكذا يقال: نشز ينشز: إذا تنحى عن موضعه، ومنه امرأة ناشز، أي: متنحية عن زوجها، وأصله مأخوذ من النشز، وهو ما ارتفع من الأرض وتنحى، ذكر معناه النحاس {يَرْفَعِ الله الذين ءامَنُواْ مِنكُمْ} في الدنيا والآخرة بتوفير نصيبهم فيهما {والذين أُوتُواْ العلم درجات} أي: ويرفع الذين أوتوا العلم منكم درجات عالية في الكرامة في الدنيا، والثواب في الآخرة، ومعنى الآية: أنه يرفع الذين آمنوا على من لم يؤمن درجات، ويرفع الذين أوتوا العلم على الذين آمنوا درجات، فمن جمع بين الإيمان والعلم رفعه الله بإيمانه درجات، ثم رفعه بعلمه درجات، وقيل: المراد بالذين آمنوا من الصحابة، وكذلك الذين أوتوا العلم، وقيل: المراد بالذين أوتوا العلم الذين قرءوا القرآن.
والأولى حمل الآية على العموم في كل مؤمن، وكل صاحب علم من علوم الدين من جميع أهل هذه الملة، ولا دليل يدلّ على تخصيص الآية بالبعض دون البعض، وفي هذه الآية فضيلة عظيمة للعلم وأهله، وقد دلّ على فضله وفضلهم آيات قرآنية وأحاديث نبوية {والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} لا يخفى عليه شيء من أعمالكم من خير وشرّ، فهو مجازيكم بالخير خيراً وبالشرّ شراً. {يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا ناجيتم الرسول فَقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نجواكم صَدَقَةً} المناجاة المساررة، والمعنى: إذا أردتم مساررة الرسول في أمر من أموركم، فقدّموا بين يدي مساررتكم له صدقة. قال الحسن: نزلت بسبب أن قوماً من المسلمين كانوا يستخلون النبيّ صلى الله عليه وسلم يناجونه، فظنّ بهم قوم من المسلمين أنهم ينتقصونهم في النجوى، فشقّ عليهم ذلك، فأمرهم الله بالصدقة عند النجوى؛ لتقطعهم عن استخلائه.
وقال زيد بن أسلم: نزلت بسبب أن المنافقين واليهود كانوا يناجون النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويقولون: إنه أذن يسمع كل ما قيل له، وكان لا يمنع أحداً من مناجاته، وكان ذلك يشقّ على المسلمين؛ لأن الشيطان كان يلقي في أنفسهم أنهم ناجوه بأن جموعاً اجتمعت لقتاله، فأنزل الله: {ياأيها الذين آمنوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَةِ الرسول}، فلم ينتهوا، فأنزل الله هذه الآية، فانتهى أهل الباطل عن النجوى؛ لأنهم لم يقدّموا بين يدي نجواهم صدقة، وشقّ ذلك على أهل الإيمان، وامتنعوا عن النجوى لضعف كثير منهم عن الصدقة، فخفف الله عنهم بالآية التي بعد هذه، والإشارة بقوله: {ذلك} إلى ما تقدّم من تقديم الصدقة بين يدي النجوى، وهو مبتدأ وخبره: {خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ} لما فيه من طاعة الله، وتقييد الأمر بكون امتثاله خيراً لهم من عدم الامتثال، وأطهر لنفوسهم يدل على أنه أمر ندب لا أمر وجوب {فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} يعني: من كان منهم لا يجد تلك الصدقة المأمور بها بين يدي النجوى، فلا حرج عليه في النجوى بدون صدقة.
{أَءشْفَقْتُمْ أَن تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نجواكم صدقات} أي: أخفتم الفقر والعيلة؛ لأن تقدّموا ذلك، والإشفاق: الخوف من المكروه، والاستفهام للتقرير. وقيل المعنى: أبخلتم، وجمع الصدقات هنا باعتبار المخاطبين. قال مقاتل بن حيان: إنما كان ذلك عشر ليالٍ، ثم نسخ.
وقال الكلبي: ما كان ذلك إلاّ ليلة واحدة.
وقال قتادة: ما كان إلاّ ساعة من النهار {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ} ما أمرتم به من الصدقة بين يدي النجوى، وهذا خطاب لمن وجد ما يتصدق به، ولم يفعل، وأما من لم يجد، فقد تقدّم الترخيص له بقوله: {فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} {وَتَابَ الله عَلَيْكُمْ} بأن رخص لكم في الترك، و{إذ} على بابها في الدلالة على المضيّ، وقيل: هي بمعنى إذا، وقيل: بمعنى إن، وتاب معطوف على لم تفعلوا، أي: وإذا لم تفعلوا، وإذ تاب عليكم {فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} والمعنى: إذا وقع منكم التثاقل عن امتثال الأمر بتقديم الصدقة بين يدي النجوى، فاثبتوا على إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وطاعة الله ورسوله، فيما تؤمرون به وتنهون عنه {والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} لا يخفى عليه من ذلك شيء، فهو مجازيكم، وليس في الآية ما يدلّ على تقصير المؤمنين في امتثال هذا الأمر، أما الفقراء منهم، فالأمر واضح، وأما من عداهم من المؤمنين، فإنهم لم يكلفوا بالمناجاة حتى تجب عليهم الصدقة بل أمروا بالصدقة إذا أرادوا المناجاة فمن ترك المناجاة، فلا يكون مقصراً في امتثال الأمر بالصدقة، على أن في الآية ما يدل على أن الأمر للندب، كما قدّمنا.
وقد استدلّ بهذه الآية من قال بأنه يجوز النسخ قبل إمكان الفعل، وليس هذا الاستدلال بصحيح، فإن النسخ لم يقع إلاّ بعد إمكان الفعل، وأيضاً قد فعل ذلك البعض، فتصدّق بين يدي نجواه، كما سيأتي.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان قال: أنزلت هذه الآية {إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِى المجالس} يوم جمعة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ في الصفة، وفي المكان ضيق، وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار، فجاء ناس من أهل بدر، وقد سبقوا إلى المجالس، فقاموا حيال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: السلام عليك أيها النبيّ ورحمة الله وبركاته، فردّ النبيّ صلى الله عليه وسلم عليهم، ثم سلموا على القوم بعد ذلك، فردّوا عليهم، فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم، فعرف النبيّ ما يحملهم على القيام، فلم يفسح لهم، فشق ذلك عليه، فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار من غير أهل بدر: «قم يا فلان، وأنت يا فلان»، فلم يزل يقيمهم بعدّة النفر الذين هم قيام من أهل بدر، فشقّ ذلك على من أقيم من مجلسه، فنزلت هذه الآية.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال: ذلك في مجلس القتال {وَإِذَا قِيلَ انشزوا} قال: إلى الخير والصلاة.
وأخرج ابن المنذر، والحاكم وصححه، والبيهقي في المدخل عن ابن عباس في قوله: {يَرْفَعِ الله الذين ءامَنُواْ مِنكُمْ والذين أُوتُواْ العلم درجات} قال: يرفع الله الذين أوتوا العلم من المؤمنين على الذين لم يؤمنوا درجات.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود في تفسير هذه الآية قال: يرفع الله الذين آمنوا منكم، وأوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم درجات.
وأخرج ابن المنذر عنه قال: ما خصّ الله العلماء في شيء من القرآن ما خصهم في هذه الآية، فضل الله الذين آمنوا وأوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {إِذَا ناجيتم الرسول} الآية، قال: إن المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقوا عليه، فأراد الله أن يخفف عن نبيه، فلما قال ذلك ظنّ كثير من الناس، وكفوا عن المسئلة، فأنزل الله بعد هذا: {أَءشْفَقْتُمْ} الآية، فوسع الله عليهم ولم يضيق.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، والترمذي وحسنه، وأبو يعلى، وابن جرير، وابن المنذر، والنحاس، وابن مردويه عن عليّ بن أبي طالب قال: لما نزلت: {يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا ناجيتم الرسول فَقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نجواكم صَدَقَةً} قال لي النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ما ترى، دينار؟» قلت: لا يطيقونه. قال: «فنصف دينار؟» قلت لا يطيقونه، قال، «فكم؟» قلت: شعيرة، قال: «إنك لزهيد»، قال: فنزلت: {أأشفقتم أَن تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نجواكم صدقات} الآية، فبي خفف الله عن هذه الآمة، والمراد بالشعيرة هنا: وزن شعيرة من ذهب، وليس المراد: واحدة من حبّ الشعير.
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عنه قال: ما عمل بها أحد غيري حتى نسخت، وما كانت إلاّ ساعة، يعني: آية النجوى.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن راهويه، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه عنه أيضاً قال: إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي، ولا يعمل بها أحد بعدي، آية النجوى {يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا ناجيتم الرسول فَقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نجواكم صَدَقَةً} كان عندي دينار، فبعته بعشرة دراهم، فكنت كلما ناجيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قدّمت بين يدي نجواي درهماً، ثم نسخت، فلم يعمل بها أحد، فنزلت: {أأشفقتم أَن تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نجواكم صدقات} الآية.
وأخرج الطبراني، وابن مردويه. قال السيوطي: بسندٍ ضعيف عن سعد بن أبي وقاص قال: نزلت: {يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا ناجيتم الرسول فَقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نجواكم صَدَقَةً}، فقدمت شعيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنك لزهيد»، فنزلت الآية الأخرى: {أأشفقتم أَن تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نجواكم صدقات}.

1 | 2